الوقـــت رخيــص .. في مقهى المتبولي كل شيء رخيص .. الوقت رخيص .. و الكلام رخيص .. و الضحك رخيص
الوقـــت رخيــص ..
في مقهى المتبولي كل شيء رخيص .. الوقت رخيص .. و الكلام رخيص .. و الضحك رخيص .
تستطيع أن تدفع ثمن كوب من الشاي و تجلس .. فتأتي الحياة إلى مائدتك .. تأتي إليك آخر الأخبار .. و آخر الإشاعات .. و آخر النكت .. و يسعى إليك رجل ليمسح حذاءك .. و رجل آخر ليقرأ عليك موعظة .. و آخر يسحب لك قرداً .. و آخر يبتلع منشاراً و يحملك أنت و كرسيك على أرنبة أنفه .. و يقول إنه فنان يأكل أربعة أرغفة في الفطور من عرق جبينه .
و على الرصيف بين كيزان الحِلبة و الطراطير و باعة الكشري تجد نفسك جزءاً من " سينما سكوب " شعبي يتغير بإستمرار .
الجرسون و هو يحمل على ذراعه ثلاث طلبات و شيشة و طاولة و طقطوقة و يترنح و هو يصيح " أيوة المضبوط معايا .. أهوه " و المحامي الشرعي و هو يجلس لا يبدو منه إلا قفاه و قبضة يده و هي تروح و تجيء في حلقات من الدخان .. القضية في إيدي اليمين .. النفقة .. و المقدم .. و المؤخر .. و البهدلة كمان .. كله على الله و عليَّ .. هي دي أول قضية والا آخر قضية يا بو سليمان ؟
و شلبي أفندي صاحب المونوكل و البابيون و المنشة ..
و مكوجي الرِجل بدِكة سرواله التي تتدلى على الأرض .
و العمدة و السمسار .. و بائع القلل .. و النشال .. و مدرس الخط .. و مأمور الضرائب .. و المأذون .. و الشمَّاس .. و العرضحالجي .. و مائة آدمي . منكفئون على الموائد يلعبون النرد و يتهامسون و يتشاجرون و يعلو شجارهم فنسمع بين قرقعة الدُش و الدَبَش كلماتهم المبحوحة .
_ دي معاملة يا راجل .. ده كلام تقوله .. أرُدَّها .. أردها ازاي .. و الشنب ده كله يروح فين .. دنا أقطع الدراع اللي تتمد لها ! .. دي واحدة ما يتمرش فيها العِشرة و المعروف ..
خمس سنين .. و انا شايلها في عينيه .. هات يا زكي .. روح يا زكي .. اقبض يا زكي .. ادفع يا زكي لما داخ زكي و غلب .. و آخر المواخر تعمل فيَّ كده .. و عاوزني أردها .. أردها ازاي ! ده الطلاق فيها شوية ..دي عاوزة الدبح .. الدبح و الكعبة الشريفة يا شيخ .. و حق المقام الطاهر .. وحياتك يا نعمة .. إني بِعت أهلي على الولية دي . و خربت بيتي و شردت عيالي .
بلاش تعاملني أنا عامل ربنا .. عامل ضميرك .. و خليك حاكم عادل .. يرضيك خرابي .. يرضيكوا انتوا يا ناس .. دنا زكي .. زكي أبو الدهب .. اللهم طولك يا روح .. زكي يطاطي لولية قليلة الأصل .. و يرجع في كلامه .. طب و الله لأنا رايح مخلص على الولية دي عشان ترتاحوا .. أوعوا بقه .. أوعوا سيبوني .. أوعوا يا ناس ..
و تتشابك حلقة الناس حول الزوج المهتاج .. فيجلس و هو يسب و يلعن ، ثم تعود الضجة فتغرق في قرقعة الدِش و الدبَش من جديد ..
و يتسلل إلى المقهى رجل ضامر هزيل يبيع الكتب .. و ينادي عليها بصوت رفيع مخنوق ..
إبتهالات .. أوراد .. إستخارات .. خطب منبرية .. أحاديث محمدية .. تفاسير ..
و يدور في المقهى مرتين ثم يتوقف عند جماعة من إخواننا الأقباط و يهمس :
قصص الآباء اليسوعيين أقانيم حنا و بولس . و صايا القمص جورجيوس .. كلمات بطرس الناسك ..
و يختفي في الزحام ثم يعود للظهور ليدس في يد كل واحد إعلاناً و يوشوش في أذنه ..
كتاب غرامي ، إجتماعي تناسلي .. قصة امرأة باعت جسدها للشيطان .. صورة صريحة تعرفك بالمرأة على حقيقتها ، مائة صفحة من اللذة المتواصلة ! .. أسرار الحياة الجنسية تُكتَب لأول مرة ..
و يفتح الكتاب على رسم عارٍ و يلوح به في إغراء ثم يرفع عقيرته من جديد :
إبتهالات .. أوراد .. إستخارات .. خطب منبرية .. أحاديث .. تفاسير ..
و يختفي بين الموائد المزدحمة و سُحُب الدخان .. و يصفق زبون في الركن . و يطلب قهوة على الريحة .. ثم ينسى الطلب و ينام . و ينام على وجهه الذباب و يتدلى فكه و تتراخى ذراعاه في شبه غيبوبة ..
و الوقت يمضي .. و النهار ينتصف و يبدأ المقهى ينفض .. و تتحول الطبيعة النابضة إلى طبيعة ميتة .. الكراسي مصطفة في دوائر كل منها ينظر إلى الآخر كأنه يتكلم .. و على ظهر كل منها بقعة كبيرة من الزيت و العرق .. و على مقابضها بصمات متلاصقة .. و على الأرض آثار البُلَغ و الأحذية و القباقيب و الأقدام العارية و أعقاب السجائر ..
و في الركن الشيشة تستند إلى الحائط و جمراتها ما زالت تنفث الدخان .. و على الحوض عشرات الأكواب مقلوبة ، و المعلم يفتح درج الحساب و يعد القروش ، و الجرسون يجلس القرفصاء على الأرض و قد اعتمد رأسه بين يديه ، و أمامه على الحائط تتدلى لوحة كبيرة مكتوب عليها بالكوفي .. يا رب . و إلى جوارها صورة للحرم النبوي .. و كشف طويل بأسعار الينسون و القرفة و القهوة و الشاي و المعسل ..
و في الناحية الأخرى .. يتكوم الحاج أمين العجوز .. و أمامه السواك و المنشة .. و قد استغرق في نوم عميق .. و إلى جواره يجلس المعلم زكي .. الزوج الثائر لكرامته يلعب وحده أمام طاولة مفتوحة و يلقي بالزهر في عصبية ..
و الصمت يلف المكان .. و يدوي له صوت في الأذن .. صوت أعلى من الضجة .. و يتحرك المعلم زكي لينهض .. و في رأسه نية مبيتة .إنه ذاهب إلى مطلقته و هو ينهب الأرض بخطوات مسرعة و قد كشر عن أنيابه .. و شدد القبضة على عصاه .. لن تعيش فطومة بعد اليوم ، سوف تصبح في عداد الموتى ..
و يعبر الميدان و أعصابه تغلي .. و يقطع شوطاً حامياً من المشي في عدة شوارع و أزقة بدون هدف .. ثم يبدأ في الهدوء .. و تتبخر ثورته . و تذهب مع العرق . و تتراخى قبضته على عصاه و يقف عند قصَّاب ليشتري عدة أرطال من اللحم ، ثم يقف مرة أخرى أمام قفص الدجاج ليشتري بطة .. ثم يضرب في الأزقة حتى يبلغ سوق الفاكهة فيشتري لبشة قصب .. و يحمل هذه الهدايا كلها إلى بيت فطومة .. و يقف أمام الباب يدقه في فرح حيواني ، و هو يبرم شاربه .. و يتخيل الليلة المقبلة .. و فطومة في أحضانه و خدها يتلوى تحت شفتيه .. و يجري ريقه بطعم ساخن طري كطعم الملبن .. فيدق من جديد .. و قد تدفقت في عروقه رغبة ملحة .. و في نفس الوقت .. تدق ساعة الميدان ..
لقد مضت ثلاث ساعات من الوقت .. الوقت الرخيص .
د_مصطفي_محمود
من_كتاب_عنبر7
تعليقات
إرسال تعليق