قصة قصيرة.. شرفة الأمل

 




ككل صباح يُقلني أحدهم من داخل غرفتي التي آلفتها وآلفتني بين أحضان هذا المنزل العتيق - الذي لم يشفع لي ارتفاع سقفه أن أُحلّق في سمائه - إلى الشرفة الكبيرة المطلة على الحديقة الخلفية، تتسلل إلى جسدي النحيل بعض الأشعة الدافئة من قرص الشمس التي هربت من بين الأغصان الكثيفة المتسامقة بعيدًا عن أيدي السجان المتسلطة..

أقبع بداخل قضباني وحيدًا، ألملم أشلاء ذاكرتي فأراني كما كنتُ منذ عهدٍ بعيد، ربما اختلفت القضبان، ضاقت أو اتسعت.. حريري المهد أو أتوسد المخمل، جميعها شكليات..

المظهر الذي يلفت كلّ الأنظار، فيقفون أمامي يطالعونني كأنثى طاووس في داخل حديقة الحيوان..

ولكن من يكترث لفكّ طلاسم ألحاني، ويبحث فيما يخفيه أنين الأنغام؟

كان هذا الغصن المتدلي من شجرة الفيكس التي باتوا يطلقون عليها اسم «البونساي» يتسلل من بين أهداب القضبان فيداعب جناحي ليحرضه على الطيران..

لم أهتم لأمره من قبل ولم أستجب لتحريضه، فكيف لي بالحلم وأنا ما زلتُ صريع هذا السجن وربما نسي أمري السجان..

لم يعد للأيام ملامح تميزها فجميعها بذات القوام، تنسرب من بين أنامل عمرك فتسرق منك الشباب والأحلام وأنت ما زلت في نفس المكان تصارع نسمة هواءٍ باردةٍ في كانون أو لفحة شمسِ حزيران.

لم ييأس الغصن من صمتي، وعاد يهمس لي بحفيف الأوراق حين تسرب خلالها نسيم آذار العليل..

- ما بك؟

بنبرةٍ يملأها الشجن، ودمعة تسللت برغم تضييق الخناق؛ فما شعرتُ من قبل بحاجة لإطلاق سراحها؛ فمن لأمري يهتم ومن يحاول مسح هذه الدمعات إذا ما أسقطتها؟

- لا شيء..

أنا بخير..

- هل أنت واثق مما تقول؟

لم تكن كلماته سوى قبضة هوت على حصوني فأحالتها لرماد، وصرتُ أشكو كما لم أكن تعلمت من قبل الكلام ونطقتُ الآن بعد معاناةٍ مع صمتي وسكوني الذي دام لسنوات..

فكيف لحرفي أن يبوح بما كان في شرع الجميع حرام! وكيف أنشد الحريّة وقد حكموا عليها في قلبي بالإعدام!!

أنا الجريح حامل الذنب الذي لم يقترفه، وأنا الشهيد الذي لم يوار له جثمان..

تنهد الغصن تنهيدة طويلة وكأنما شقت للتو لحاءه فأسُ مزارعٍ يصارع للبقاء؛ فيضحي بآخر أشجاره لينعم بالدفء في ليالي الشتاء:

- أنا مثلك سجين، أنتظر كل يومٍ حكم الإعدام، فجذوري البائسة نبتت بين يدي من لا يرحم، ينشد السعادة في قتل الأبرياء، يتلذذ بتعذيب الضعفاء وبآلامهم يتاجر لينال الشهرة والمكسب.

يشذبون أفناني ويقتلون في الروح الشباب ثم يدّعون أنني متقزّم ليس مني رجاء.

فتصيح الساق وقد امتلأت بمشاعر الحسرة والألم:

- يقتلون أبنائي ويمزقون أوصالي لأصير دمية بين أيديهم كمهرج يلتمسون في هزاله النشوة وزهوة الانتصار.

لكنني لا أيأس وكلما قطعوا لي غصنًا نما غيره مئات..

أنا الأمة التي تخبو جذوتها حتى تشرق لكنها أبدًا لا تنطفئ مهما تكالبت عليها الذئاب..

تعود روحي المتحررة لجسدي المُسجون في مقعده ذي العجلات ينتظر أن يأتي أحدهم من خلفي ليدفعه فأعود لغرفة ألفتُ أركانها وألفتْ عزلتي، ونقشتُ على جدرانها آلاف التساؤلات، ولكنني هذه الليلة عُدتُ بحلم سأعيشه طيلة الأيام التالية؛ حلم التحليق بجناحين، فيما وراء الخيال بمسافة حلمين: حلم عصفورٍ بالطيران، وحلم أمةٍ بالبقاء..

أمل درويش

كاتبة وروائية مصرية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يقول الشاعر : يداوى فساد اللحم بالملح .. فكيف نداوي الملح إن فسد الملح

صباح اليقين بأن رحمة خالقنا أوسع من متاعب الدنيا وشقائها .. صباح السعادة لكل قلب لا يحمل إلا الحُب لمن حوله

وفاة مشهور توك توكفي عصام الليبي إثر جلطة قلبية أثناء إجرائه لعملية قلب مفتوح. في المانيا إ