بين القصرين
٤٤
تصايح الغلمان المتجمهرون أمام باب البيت وعلى طوار سبيل بين القصرين مهللين، تميز صوت كمال وهو يهتف: «هلَّت سيارة العروس» وردَّدها ثلاثًا فخرج ياسين — وهو في كامل زينته وأبهته — من بين الجماعة الواقفة عند مدخل الفناء، ومضى إلى الطريق فوقف أمام الباب متجهًا صوب النحَّاسين، فرأى موكب العروس وهو يتقدَّم على مهلٍ كأنَّه يتبختر. في تلك الساعة الحافلة بالسعادة والرهبة، وعلى رغم الأعين المحملقة فيه من داخل البيت وخارجه ومن فوق ومن تحت، بدا ثابتًا غير هيَّابٍ مفعمًا رجولة وفحولة، لعل ممَّا أيَّده في ثباته إحساسه بأنه محط الأنظار، فغالب بشجاعةٍ ما يخفق بين جوانحه من اضطراب أن يبدو للناظرين في حال تخجل منها الرجولة، ولعله أيضًا علم بأن أباه منكمش في مؤخرة الجماعة المنتظرة عند مدخل الفناء — التي تضمُّ آل العروسَين من الذكور — بحيث لا تمتدُّ إليه عيناه، فوسعه أن يتمالك نفسه وهو يرنو إلى السيارة الموشَّاة بالورود التي تحمل إليه عروسه بل زوجه منذ أكثر من شهر، وإن لم تقع عيناه عليها بعد، أو الأمل الذي صاغه بأحلامه الظامئة لسعادة لا تقنع بما دون الدوام. وتوقَّفت السيارة أمام البيت على رأس ذيل طويل من السيارات، فأخذ أهبته للاستقبال السعيد، وقد استجدَّت عنده الرغبة في أن يستشفَّ النقاب الحريري ليرى وجه عروسه لأول مرة، ثم فتح باب السيارة وترجَّلت جارية سوداء في الأربعين قوية البنية، لمَّاعة البشرة نجلاء العينين، فاستدلَّ بما يلوح على حركاتها من الثقة والإدلال على أنها الجارية التي تقرَّر إلحاقها بخدمة العروس في بيتها الجديد، تنحَّت جانبًا ووقفت منتصبة القامة كالديدبان، ثم خاطبَته بصوتٍ كرنين النحاس، وهي تبتسم عن أسنانٍ ناصعة البياض قائلة: تفضَّل خُذ عروسك.
فتقدَّم ياسين من باب السيارة، ومال إلى الداخل قليلًا، فرأى العروس في حلَّتها البيضاء بين غادتَين على حين استقبله عَرْف طيب مفتنة للجوارح، فتاه في جو الحسن منبهرًا، ومدَّ لها ذراعه لا يكاد يرى شيئًا كما يكلُّ بصرٌ طالَع نورًا ساطعًا، وعَقَل الحياء العروس فلم تُبدِ حَراكًا، فتطوَّعت التي إلى يمينها، فتناولت يدها وطرحتها على ذراعه هامسةً بنبرةٍ ضاحكة: تشجَّعي يا زينب.
دخلا جنبًا لجنب وهي من الحياء تحول بينه وبينها بمروحةٍ كبيرةٍ من ريش النعام وارَت بها رأسها وعنقها، فقطعا الفناء بين صفَّين من المنتظرين يتبعهما المدعوَّات من آلِها اللواتي تعالَت زغاريدهنَّ كأنهنَّ لا يُبالين السيد أحمد وقيامه على ذراعٍ منهن، هكذا لعلعت الزغاريد في البيت الصامت لأول مرة وعلى مسمعٍ من سيده الجبار، فلعلها وقعت من آذان أهله موقع الدهشة، بَيْد أنها دهشة مزجت بالفرح، ولم تخلُ من شماتةٍ بريئةٍ مرحةٍ روَّحت بها القلوب عن قرار الحظر الصارم الذي قضى بألَّا تكون زغاريد ولا غناء ولا لهو، وبأن تمضي ليلة زفاف الابن البكر كما تمضي غيرها من الليالي. وتبادلت أمينة وخديجة وعائشة النظرات متسائلاتٍ باسماتٍ وتكَأْكأنَ على خصاص نافذةٍ مُطلَّة على الفناء؛ ليشهدنَ أثر الزغاريد في نفس السيد فرأَيْنَه يُحادث السيد محمد عفت ضاحكًا، فتمتمَت أمينة قائلة: «لن يسعه الليلة إلا أن يضحك مهما يبدو مما لا يروقه!» وانتهزت أم حنفي الفرصة السانحة، فاندسَّت بين المزغردات كالبرميل، وأطلقت زغرودةً قويةً مجلجلةً غطَّت على الزغاريد كلها، وعوَّضت بها ما ضيَّعت — في ظل الإرهاب — من فرص المرح والمسرَّة على عهد خطبتَي عائشة وياسين، وأقبلت على سيداتها الثلاث وهي تزغرد حتى استغرقْنَ في الضحك، ثم قالت لهن: «زغردْنَ ولو مرةً في العمر … إنه لن يدري الليلة من المزغرد!» رجع ياسين بعد إيصال العروس إلى باب الحريم، فالتقى بفهمي الذي لاحت على شفتيه ابتسامة موحية بالحرج والإشفاق لعلها أثر ممَّا خلفته في نفسه هذه الضجة البهيجة «المحرَّمة»، وكان يُخالس أباه النظر ثم يرده إلى وجه أخيه ضاحكًا ضحكة مقتضبة مغضوضة، فما كان من ياسين إلا أن قال له بلهجةٍ لا تخلو من استياء: أي استنكار في أن نحيي ليلة الزفاف بالفرح والزغاريد؟! … وماذا كان عليه لو وافق على استدعاء عالمة أو مُغنٍّ؟!
تلك كانت رغبة الأسرة التي لم تجد إلى الإفصاح عنها من سبيل إلا أن تحرِّض ياسين على الاستشفاع بالسيد محمد عفت على أبيه، ولكن السيد اعتذر وأبى إلا أن تكون ليلة زفاف صامتة، وأن تقتصر مسرَّاتها على العشاء الفاخر. وعاد ياسين يقول آسفًا: لن أجد من تزفُّني هذه الليلة التي لن تتكرَّر أبد الدهر! … سأدخل حجرة العروس غير مشيَّعٍ بالأناشيد والدفوف كأنني راقص يهز جذعه دون إيقاع.
ثم لاحت في عينَيه ابتسامة مرحة ماكرة، فقال: الذي لا شك فيه أن أبانا لا يطيق «العوالم» إلا في بيوتهن!
مكث كمال في الدور الأعلى الذي أُعِد لجلوس المدعوَّات ساعة، ثم نزل باحثًا عن ياسين في الدور الأول الذي هُيِّئ لاستقبال المدعوِّين، ولكنه وجده في فناء البيت يتفقَّد المطبخ المتنقِّل الذي أقامه الطاهي، فأقبل نحوه مسرورًا إدلالًا بأداء المهمة التي عهد بها إليه، وقال له: فعلت كما أمرتني فتبعت العروس حتى حجرتها وتفحَّصتها بعد أن حسرت النقاب عن وجهها …
فانتحى به جانبًا وهو يسأله باسمًا: هه؟ … كيف عودها؟
– في عود أبلة خديجة.
ضاحكًا: في هذه الناحية لا بأس؟ … أتعجبك كعائشة؟
– كلا … أبلة عيشة أجمل كثيرًا!
– يخرب بيتك أتريد أن تقول إنها كخديجة؟
– كلَّا إنها أجمل من أبلة خديجة.
– كثيرًا؟!
فهز رأسه مفكرًا فسأله الشاب بلهفة: حدثني عما أعجبك فيها؟
– أنفها صغير كأنف نينة … وعيناها كعينَي نينة أيضًا.
– ثم؟
– لونها أبيض، وشعرها أسود، ورائحتها حلوة جدًّا.
– نحمده … ربنا يبشرك بخير.
وخُيِّل إليه أن الغلام يُغالب رغبة في معاودة الكلام، فسأله في شيءٍ من القلق: هات ما عندك ولا تخف!
فقال كمال وهو يغض بصره: رأيتها تُخرج منديلًا ثم تتمخَّط!
والتوت شفتاه تقززًا كأنما كبر عليه أن تندَّ الفعلة عن عروس في ريق فتنتها، فما تمالك ياسين أن ضحك قائلًا: لحد هنا عال، ربنا يجعل العواقب سليمة!
ألقى نظرة كئيبة على الفناء الخالي إلا من الطاهي وصبيانه، وبعض الأولاد والبنات، فتخيَّل ما كان ينبغي أن يوجد من معالم الزينة وسرادق الطرب ومجلس المدعوين، من قضى بهذا؟ … أبوه! … الرجل الذي يفوح عرقه بالمجون والعربدة والطرب … أعْجِب به من رجلٍ يحلُّ لنفسه اللهو الحرام، ويحرِّم على بيته اللهو الحلال، وراح يتخيَّل مجلس السيد كما رآه في حجرة زبيدة بين الكأس والعود، فما يدري إلا وقد وثبت إلى ذهنه فكرة غريبة لم تخطر له من قبلُ على شدة وضوحها فيما رأى، تلك هي التشابه بين طبيعتَي أبيه وأمه! طبيعة واحدة في شهوانيتها وجريها وراء اللذة في استهتارٍ لا يقيم وزنًا للتقاليد، ولعل أمه لو كانت رجلًا لما قصرت عن أبيه في اللهج بالشراب والطرب أيضًا! لذلك انقطع ما بينهما — أبيه وأمه — سريعًا، فما كان لمثله أن يطيق مثلها، وما كان لمثلها أن تطيق مثله، بل ما كانت الحياة الزوجية لتستقيم له لولا وقوعه على زوجته الراهنة! ثم ضاحكًا ضحكة لم يتح لها روعه من هذه «الفكرة الغريبة» روحًا من السرور «عرفت الآن من أكون، لست إلا ابن هذَين الشهوانيَّين، وما كان لي أن أكون غير ما كنت!» في اللحظة التالية تساءل: تُرى ألم يخطئه الصواب عند إغفال دعوة أمه إلى زفافه؟! تساءل رغم إصراره على الاعتقاد بأنه لم يتنكب عن الصواب، لعل أباه رام إراحة ضميره حينما قال له قبل ليلة الزفاف بعدَّة ليالٍ: «أرى أن تبلِّغ أمك، ولك إن شئت أن تدعوها إلى شهود زفافك.» ذاك قوله بلسانه لا بقلبه فيما يعتقد، فما يتصوَّر أن يرضى أبوه له بأن يذهب إلى حيث يقيم ذلك الرجل الحقير الذي اتخذته أمه زوجًا لها من بعد أزواج كثيرين، وأن يتودَّد إليها على مرأًى منه بأن يدعوها إلى شهود زفافه، لا كان الزفاف، ولا كانت أي سعادة في هذه الدنيا إن حملته يومًا على أن يصل ما انقطع بينه وبين تلك المرأة … تلك الفضيحة … تلك الذكرى المخزية! وما كان منه إلا أن أجاب أباه وقتذاك قائلًا: «لو كان لي أم حقًّا لكانت أول من أدعو إلى زفافي!» انتبه فجأةً إلى الأولاد والبنات وهم يرنون إليه، ويتهامسون فخصَّ البنات بنظرة وسألهن بصوتٍ جهوري ضاحك: «هل تحلمن بالزواج من الآن يا بنات؟» واتَّجه نحو باب الحريم وهو يذكر قول خديجة الساخر له بالأمس: «إياك وأن تستسلم غدًا للحياء بين المدعوِّين وإلا عرفوا الحقيقة المُرة، وهي أن أباك الذي زوَّجك ونقد مهرك وجملة تكاليف ليلتك، ولكن تحرَّك بلا توقف، تنقَّل بين حجرات المدعوِّين، ضاحِكْ هذا وكلِّم ذاك، اطلع وانزل، تفقَّد المطبخ، اهتف وازعق، لعلك توهم الناس بأنك حقًّا رجل الليلة وسيدها!» فمضى ضاحكًا، وفي نيته أن يمتثل النصيحة الساخرة، فخطر بين المدعوِّين بجسمه الطويل الجسيم في أناقةٍ بديعةٍ ووسامة جذابة، وشباب ريق، ذهب وجاء، ونزل وطلع، وإن لم يفعل شيئًا، بَيْد أن الحركة نفضت عن نفسه طوارئ الفكر، فصفت نفسه لمفاتن الليلة. ولما خطرت العروس على قلبه سرت في بدنه قشعريرة بهيمية، ثم ذكر آخر ليلة قضاها عند زنوبة العوادة منذ شهر، كيف أنبأها بزواجه الوشيك وهو يودِّعها وكيف هتفت به بلهجة اصطنعت الغيظ: «يا بن الكلب! … كتمت الخبر حتى نلت وطرك! … (المركب اللي تودِّي أحسن من اللي تجيب) … مع ألف شبشب يا بن المركوب.» لم يَعُد لزنوبة من أثرٍ في نفسه، ولا لغيرها، أسدل الستار على هذا الجانب من حياته إلى الأبد، ربما عاود الشراب فما يظنُّ أن تموت رغبته فيه، أما النساء فلم يتصور أن تزيغ عيناه إلى امرأة عابرة وبين يديه حسناء طوع بنانه، عروسه لذَّة متجدِّدة، ري للظمأ الوحشي الذي طالما قلقل كيانه، ثم راح يتمثَّل حياته المقبلة، الليلة، والليالي الآتيات، الشهر والعام، فالعمر كله، ووجهه يسطع بهجة ناطقة لحظها فهمي بعينٍ مليئة بحب الاستطلاع والغبطة الهادئة وغير قليلٍ من الأسى، وجاء كمال الذي كان يتراءى في أي مكانٍ فجأة، وخاطب ياسين والبِشْر يتألَّق في وجهه قائلًا: الطاهي قال لي إن الحلوى تزيد على حاجة المدعوِّين والمدعوَّات، وإنه سيتبقَّى منها مقدار وفير.
٤٥
زاد مجلس القهوة وجهًا جديدًا بانضمام زينب إليه، وجهًا زكَّاه بريق الشباب وفرحة العرس، وفيما عدا هذا، وفيما عدا فرش الحجرات الثلاث المجاورة لحجرة الوالدين في الدور الأعلى بجهاز العروس، فلم يُحدث زواج ياسين تغييرًا يُذكَر في النظام العام للبيت، سواء من الناحية السياسية التي ظلَّت خاضعةً بكل معاني الكلمة لسلطان السيد وإرادته، أو من الناحية الإدارية الداخلية التي ظلَّت وحدة تابعة لهيمنة الأم كما كان الحال قبل الزواج. التغيير الجوهري حقًّا كان الذي طرأ على النفوس، ودار مع الخواطر، فدقَّت رؤيته على الحواس، إذ لم يكن من اليسير أن تشغل زينب مكانة الزوجة للابن البكر، وأن يجمعهما وبقية أفراد الأسرة بيت واحد من دون أن يطرأ على العواطف والمشاعر تطوُّر ذو شأن، رمقتها الأم بنظرةٍ امتزج فيها الرجاء بالحذر، هذه الفتاة التي قُضي عليها بأن تعاشرها دهرًا طويلًا ربما امتد حتى نهاية العمر، أي إنسان تكون؟ ماذا تخبِّئ وراء ابتسامتها الرقيقة؟ بالجملة استقبلتها كما يستقبل مالك البيت ساكنًا جديدًا، فيؤمِّله ويحاذره، أما خديجة فعلى رغم المجاملات التي تبودلت بينهما، جعلت تسدِّد نحوها عينين نافذتين مفطورتين على السخرية وسوء الظن، منقِّبة عن العيوب والمآخذ بحرص ساخط لم يلقَ من انضمامها إلى البيت، وفوزها بالزواج من أخيها إلا ضيقًا خفيًّا، فلما اعتكفت الفتاة في حجراتها الأيام الأولى من الزواج ساءلت خديجة أمها وهما في حجرة الفرن: «تُرى هل حجرة الفرن مكان غير لائق «بها»؟» ومع أن الأم وجدت في تهجُّمها ترويحًا عن حيرة ظنونها، إلا أنها اتخذت موقف الدفاع عن الفتاة، وأجابتها قائلة: «صبرك، لم تزل عروسًا في بَدْء عهدها الجديد!» فتساءلت الأخرى بلهجةٍ تشي بالاستنكار: «ومن ذا الذي قضى بأن نكون خدمًا للعرائس؟!» فسألتها أمها وكأنما تطرح السؤال على نفسها هي: «أتفضِّلين أن تستقلَّ بمطبخها؟» فهتفت خديجة معترضةً: «لو كان المال مال أبيها لا مال أبي لجاز هذا! ولكني أعني أنها يجب أن تعمل معنا.» على أنه لما قرَّرت زينب، بعد انقضاء أسبوعٍ على الزواج، أن تحمل بعض الأعباء في حجرة الفرن لم يرحِّب قلب خديجة بهذه الخطوة التعاونية، ومضَت تلاحظ عمل العروس بدقة انتقادية، وتقول لأمها: «لم تجئ لتعاونك، ولكن لتمارس ما لعلها تدَّعيه لنفسها من حق.» أو تقول ساخرة: «طالما سمعنا عن آل عفَّت أنهم من الصفوة، وأنهم يأكلون ما لا يأكل الناس … فهل وجدتِ في طهيها شيئًا عجيبًا لم نسمع به؟!» بَيْد أن زينب اقترحت يومًا أن تصنع «الشركسية» باعتبارها الصنف الأثير على مائدة أبيها — وهي المرة الأولى لدخول الشركسية في بيت السيد — فحازت لدى تناولها إعجابًا شاملًا بلغ أقصاه عند ياسين، حتى إن الأم نفسها لم تبرأ من لسعة غيرة، أما خديجة فجُنَّ جنونها، وجعلت تهزأ بالصنف قائلة: «قالوا شركسية قلنا يعيش المعلم يتعلم، ولكن ماذا رأينا؟ أرزًّا وصلصةً في هيئة بوليتيكا، طعمها لا هنا ولا هناك. كالعروس تزفُّ إلى عريسها في حلة خلابة وحلي لألاء، حتى إذا نزعت عنها ثياب العرس بدت فتاة عادية من نفس الخلطة المعروفة من قبل أي اللحم والعظم والدم!» ثم ما كاد يمضي على الزواج أسبوعان، حتى قالت على مسمعٍ من أمها وفهمي وكمال إن العروس وإن كانت بيضاء البشرة، وذات حظٍّ «معتدل» من الجمال، إلا أن دمها ثقيل كالشركسية سواء بسواء، قالت هذا في نفس الوقت الذي أكبَّت فيه على استظهار دقائق صنع الشركسية بحذقها المعترَف به! على أن ثمة أحاديث صدرت عن زينب بحسن نية — في الأقل لأن وقت سوء النية لم يئن بعد — فأثارت الخواطر وألقت عليها ظلًّا من الشك، إذ طاب لها كلما تهيأت مناسبة أن تنوِّه بأصلها التركي وإن التزمت الأدب واللطف، كما لذ لها أن تروي لهم بعض ما شاهدت من رحلاتٍ في حنطور والدها، وبصحبته إلى الملاهي البريئة والحدائق، فوقع الحديث كله من نفس الأم موقعًا أدهشها إلى حد الانزعاج. عجبت لتلك الحياة التي تسمع عنها لأول مرة، وأنكرتها، واستنكرت فيما بينها وبين نفسها هذه الحُرية الغريبة استنكارًا جاوَز كل تقدير، إلى أن المباهاة بالأصل التركي — وإن لُطِّفت بالأدب والبراءة — ساءتها كثيرًا؛ لأنها كانت — على تخشُّعها وانطوائها — شديدة الاعتزاز بأبيها وبعلها، فترى أنها بهما في مكانةٍ لا تُداني، إلا أنها كظمت ما قام بنفسها، فلم تلقَ زينب منها إلا اهتمام الإصغاء وابتسامة المجاملة، ولولا حرص الأم الشديد على السلام لَانفجرت خديجة حنقًا ولَساءت العاقبة، على أنها نفَّست عن غيظها بطرقٍ ملتويةٍ ليس من شأنها أن تعكِّر صفو السلام كتعليقها على أنباء الرِّحْلات مثلًا — وهي التي لم يسعها أن تجهر فيها برأيها — بالمبالغة في إظهار الدهشة، أو بالهتاف وهي تحملق في وجه محدِّثتها «يا خبر!» أو بأن تضرب براحتها على صدرها وهي تقول: «ويراكِ السابلة وأنت تمشين في الحديقة!» أو بقولها: «ما كنت أتصوَّر إمكان هذا يا ربي!» وغير ذلك من العبارات التي وإن لم تفصح ألفاظها عن إساءة، إلا أن لهجتها الممطوطة التمثيليَّة تضمَّنت أكثر من معنًى كلهجة الزجر التي يصطنعها الأب وهو يتلو القرآن مصلِّيًا إذا ما أنس من ابنه غير البعيد عنه إخلالًا بالنظام أو الأدب وعزَّ عليه لزَجْره صراحةً أن يخرج من الصلاة؛ لذلك لم تكن تخلو إلى ياسين حتى تُبادرَه مروِّحةً عن غيظها الذي عزَّ عليها المتنفس: «يا سلام يا سلام على عروسك النزهية.» فيقول لها ضاحكًا: «هذه هي الموضة التركيَّة التي تسمو على إدراكك!» فتذكِّرها صفة «التركية» بالمباهاة الثقيلة على قلبها، فتقول: «على فكرة، ست الدار تُباهي كثيرًا بأصلها التركي، لماذا؟ … لأن جد جد جد جد جدها تركي! … حذارِ يا أخي، فإن خاتمة التركيات الجنون.» ولكنه يقول لها مجاريًا سخريتها: «الجنون أحب إليَّ من وجه أنفه يجنِّن ذا الذوق السليم!» تراءى لأعين المتنبِّئين النقار المتوقَّع بين خديجة وزينب في أفق الأسرة، فنبَّهها فهمي إلى ضبط لسانها أن يبلغ الفتاة شيء من هذرها، وأشار محذِّرًا إشارةً خفيةً إلى كمال الذي دأب على التنقُّل بينهم وبين العروس تنقُّل الفراشة — حاملة اللقاح — بين الأزهار! ولكن غاب عنه — كما غاب عن الأسرة جميعًا — أن القدر كان يعمل من جانبه على الحيلولة بين الفتاتَين، إذ زارت البيت حرم المرحوم شوكت وعائشة زيارةً لم يحلم أحدٌ من قبل بأن تتوَّج بالنهاية التي تُوِّجت بها، قالت العجوز تُخاطِب الأم على مسمعٍ من خديجة: يا أمينة هانم جئتكِ اليوم خاصَّةً لأخطب خديجة لابني إبراهيم …
فرحة بلا تمهيد وإن طال انتظارها حتى شق؛ فلذلك سجع صوت المرأة في أذني الأم سجعًا جميلًا، حتى إنها لم تذكر أن قولًا — قبله — بلَّ صدرها بندى الطُّمأنينة والسلام كما بلَّه، فكاد يستخفُّها الفرح وهي تقول بصوتٍ متهدِّج: ليس لي في خديجة أكثر مما لك، هي ابنتكِ ولتجدنَّ في حماك أضعاف ما تجد في بيت أبيها من السعادة.
استُرسل الحديث السعيد إلا أن خديجة جعلت تغيب عنه فيما يشبه الذهول، خفضت عينيها في حياءٍ وارتباكٍ، وقد زايلها روح السخرية التي طالما توهَّجت في حدقتيها، فشملتها وداعة غير معهودة ثم جرت مع تيار خواطرها، جاء الطلب مفاجأة، وأي مفاجأة، فكما بدا عسيرًا في غيابه بدا غير مصدَّقٍ في حدوثه، حتى لقد غشيت فرحتها موجة ثقيلة من الذهول … «لأخطب خديجة لابني إبراهيم» … ماذا دهاه؟ … إنه على خموله الذي أثار هزءها حسن المحيا وجيهٌ في الرجال، فماذا دهاه؟!
– ومن حسن الطالع أن يجمع بين الأختين في بيتٍ واحد.
صوت حرم المرحوم شوكت يؤكِّد الحقيقة ويزكِّي وجوهها … ليس ثمة شك … إبراهيم مثل خليل مالًا وجاهًا، فأي حظٍّ ادَّخرته لها الأقدار. لشدَّ ما أسفت على أن عائشة سبقتها إلى الزواج؛ إذ لم تكن تدري أن زواج عائشة هو الذي قُدِّر له أن يفتح لها أبواب الحظ المغلقة.
– ما أجمل أن تكون السلفة هي الشقيقة، فيزول سببٌ جوهريٌّ من أسباب وجع الدماغ في الأسر (ثم ضاحكة) فلا تبقى إلا حماتها وأظن أمرها هينًا!
– إن تكن سلفتها هي شقيقتها، فحماتها هي أمها بلا نقصان.
لم تزل الأُمَّان تتجاملان. لقد أحبَّت العجوز وهي تزف إليها البشرى بقدر ما أبغضتها يوم خطبت عائشة! يجب أن تعلم مريم بالخبر اليوم، لا تطيق أن تؤجِّله إلى الغد، لا تدري ما الدافع إلى هذه الرغبة الملحَّة، لعله قول مريم لها غداة خطبت عائشة: «ماذا كان عليهم لو أنهم انتظروا حتى تتم خطبتك أنت!» فأغراها وقتذاك سوء ظنها المطبوع باتِّهام براءته الظاهرة. ولما انصرفت أسرة شوكت قال ياسين بقصد التحرش والدعابة: الحق أني مذ رأيت إبراهيم شوكت قلت لنفسي: ما أجدر هذا الرجل الثور الذي لا يبدو أنه يفرِّق بين الأبيض والأسود أن يقع اختياره يومًا على زوجة مثل خديجة.
فابتسمت خديجة ابتسامةً خفيفة، ولم تنبس بكلمة، فهتف بدهشة: هل عرفتِ الأدب والحياء أخيرًا!
بَيْد أن وجهه نطق وهو يُمازحها بالرضا والغبطة، فلم يُعكَّر صفوهم إلا حين تساءل كمال في قلق: أتتركنا خديجة أيضًا؟
فقالت الأم تُعزِّيه وتُعزِّي نفسها: ليست السكَّريَّة بعيدة.
على أن كمال لم يستطع أن يدلي بما عنده في حُريةٍ كاملة، إلا حين انفرد بأمه ليلًا، فتربَّع قبالتها على الكنبة، وسألها بصوتٍ ينمُّ عن الاحتجاج واللوم: ماذا جرى لعقلكِ يا نينة؟ … أتفرِّطين في خديجة كما فرَّطت في عائشة؟
فأفهمته أنها لم تفرِّط فيهما، ولكنها ترضى بما يسعدهما. فقال محذِّرًا كأنما ينبِّهها إلى شيءٍ فاتها ويوشك أن يفوتها مرة أخرى: ستذهب هي الأخرى، ربما ظننت أنها ستعود كما ظننت بعائشة، ولكنها لن تعود، وستزوركِ إذا زارتكِ كالضيفة، فما إن تشرب القهوة حتى تقول لكِ السلام عليكم، إني أقولها في صراحةٍ إنها لن تعود.
ثم محذِّرًا وواعظًا في آنٍ: ستجدين نفسكِ وحدكِ بلا رفيق، مَن يُعينكِ على الكنس والتنفيض؟ … مَن يُعينكِ في حجرة الفرن؟ مَن يُجالسنا في جلسة المساء؟ … مَن يضحكنا؟ … لن تجدي إلا أم حنفي التي سيخلو لها الميدان لسرقة طعامنا كله.
فأفهمَتْه مرةً أخرى أن السعادة لن تكون بلا ثمن، فقال محتجًّا: ومن أدراكِ أن في الزواج سعادة؟! أؤكِّد لكِ أنه لا سعادة مطلقًا في الزواج، كيف يحظى أحدٌ بالسعادة بعيدًا عن نينة؟
ومُردفًا بحماس: ثم إنها لا ترغب في الزواج كما لم ترغب فيه عائشة من قبل … لقد صارحتني بذلك ذات ليلةٍ في فراشها!
ولكنها قالت له إنه لا بد للفتاة من أن تتزوَّج، فلم يتمالك من أن يقول: من قال بأنه لا بد للفتاة من أن تذهب إلى بيوت الغرباء! … ثم ماذا تفعلين لو أجلسها الآخَر على الشيزلنج وتناول ذقنها هي الأخرى و…
عند ذاك زجرَته وأمرَته بألَّا يتكلَّم فيما لا يعنيه، فضرب كفًّا بكفٍّ وهو يقول منذرًا: أنت حرة … وسترين!
في تلك الليلة لم يغمض لأمينة من يقظة الفرح جفن كأنها السماء المقمرة لا تغشاها الظلماء، فظلَّت مستيقظة حتى جاء السيد بعد منتصف الليل، ثم زفَّت إليه البشرى، فتلقَّاها بغبطةٍ أطارت عن رأسه الخمار، بالرغم مما في هذا الرأس من نظرياتٍ غريبةٍ عن زواج البنات، إلا أنه تجهَّم بغتةً متسائلًا: هل أتيح لإبراهيم أن يراها؟!
ساءلت المرأة نفسها ألَا يُمكن أن يدوم ابتهاجه — ونادرًا ما يُعلنه — أكثر من نصف دقيقة؟ … وتمتمت في قلق: أمه …
فقاطعها محتدًّا: هل أتيح لإبراهيم أن يراها؟!
فقالت وقد ولَّى عنها السرور لأول مرة في تلك الليلة: دخل علينا مرة في شقة عائشة باعتباره فردًا من الأسرة، فلم أرَ في ذلك من بأس.
فتساءل مزمجرًا: ولكني لم أعلم بذلك.
كل شيء ينذر بالشر، ترى هل يهوي على مستقبل الفتاة بضربةٍ قاضية؟ … على رغمها اغرورقت عيناها بالدمع، وما تدري إلا وهي تقول مستهينة بغضبته المكفهِرَّة: سيدي، حياة خديجة وديعة بين يديك، هيهات أن يبتسم لها الحظ مرتين.
فرماها بنظرةٍ قاسيةٍ وراح يهدر مدمدمًا مهينمًا مهمهمًا كأنما رده الغضب إلى حالةٍ من حالات التعبير بالأصوات التي مرَّ بها أسلافه الأولون، ولكنه لم يزد على ذاك شيئًا، لعله أضمر الموافقة من أول الأمر، ولكنه أبى أن يسلم بها قبل أن يسجل سخطه — كالسياسي الذي يهاجم خصمه وإن اقتنع بالغاية التي يستهدفها — ذودًا عن مبادئه.
تعليقات
إرسال تعليق