كانوا يسخرون منه، ويشيرون إليه بأصابع الاتهام قائلين: "مجنون! لكن حلمه أصبح اختراع مذهل "،
كانوا يسخرون منه، ويشيرون إليه بأصابع الاتهام قائلين: "مجنون!"،
لا لشيء إلا لأنه تجرأ على الحلم. حلم بأن يصنع طائرة لا تحتاج إلى مدرج كي تقلع، بل تصعد عموديًا نحو السماء، كطائر طنان مصنوع من الحديد. كانت البداية مجرد خطوط مرتعشة على ورقة باهتة، لكنها كانت بالنسبة له أكثر من رسمة... كانت بذرة حلم، متجذرة في أعماقه، واضحة في خياله كأنها واقع ينتظر أن يولد.
لم يكن يؤمن إلا بها. كرّس وقته، عقله، وجسده للفكرة. جرّب وصنع، ثم أعاد المحاولة مرارًا. في أول مرة كاد أن يفقد يده، وفي الثانية تحطّمت الطائرة قبل أن تفارق الأرض. ومع كل فشل، كان يزداد إصرارًا، وكأن الخسارة هي الوقود الذي يغذّي عزيمته. كان يشدّ كل مسمار كما لو أنه يشدّ على جراح قلبه، ويجمع كل قطعة من الحديد كأنها جزء من مصيره.
ثم جاء اليوم الذي انقلبت فيه الدنيا عليه. بلده اشتعلت بثورة، ففقد بيته وأحبّاءه، واضطر إلى الهرب. حمل قلبه المثقل بالحلم وسافر إلى أمريكا، لا يملك مالاً، ولا لغة، ولا سندًا. بدأ من القاع: ينظف الورش، ينام بين المعدات الباردة، يأكل من بقايا الطعام، ويخبّئ رسوماته تحت فراشه كأنها أثمن ما يملك. ضحكوا عليه، قالوا له: "فكرتك خرافة، مستحيلة. غيرك حاول قبلك وفشل." لكنه لم يسمعهم. كان يسمع فقط صوت المروحة يدور في ذهنه، يدعوه إلى عدم التوقف.
وجاء اليوم المنتظر. تحقّق الحلم. طار الحديد، واستقر في الهواء دون أن يسقط، ثم هبط بسلام. وقف أمامه مذهولًا، وعيناه تغرورقان بالدموع. كانت ساقاه ترتعشان كطفل صغير رأى نجمته الأولى. لم يكن ذلك مجرّد انتصار ميكانيكي، بل انتصار الإنسان على المستحيل.
لم تتوقف القصة هنا. تلك الطائرة العمودية التي حلم بها صارت فيما بعد أداة لإنقاذ الجنود في المعارك، ووسيلة للوصول إلى المحاصَرين في الجبال، وأملًا يهبط من السماء وقت الكوارث لإنقاذ الأرواح. وكل هذا، بدأ من مهاجر بسيط، لا يملك شيئًا سوى حلم عنيد، وآلة صدئة، وإيمان لا ينكسر.
ما فعله هذا الرجل ليس مجرد اختراع، بل رسالة حيّة لكل من غلبته الدنيا: ربما ما تمرّ به الآن هو ما سيمنحك أجنحة، وربما الألم الذي يحاصرك هو ذاته الذي سيقذفك نحو السماء. لا تتوقف. لا تتراجع. فالحلم لا يحتاج إلا إلى قلب يؤمن، ويد لا تملّ.
أنه إيجور سيكورسكي مخترع الطائرة العمودية الهليكوبتر.
تعليقات
إرسال تعليق