الوداع الأخير*إنه ذاك الوداع الصامت...

 



*الوداع الأخير*

في زاوية من الزمان، حيث تتكسر عقارب الساعة وتذوب اللحظات بين الأصابع، يجلس الإنسان... لا كجالسٍ يستريح، بل كغريق لفظه الموج إلى شاطئٍ خالٍ من النجاة. هناك، حيث لا صدى يُعزي، ولا نسمة تُطبطب، يجلس ليلملم شتات نفسه، يرمق الفراغ كما لو أنه مرآةٌ لما تبقّى من عمره، ويهمس للريح: "كنت أظن أنني سأصل..."


ما أقسى أن تتيقن — بعد كل الرحلات، بعد كل النهوضات والعثرات، بعد كل الطموحات التي ظننتها جناحيك — أن الزمن لم يكن في صفك، وأن الحلم كان أكبر من المساحة المتبقية في قلبك، وأضيق من الرئة التي ضاقت بأنفاسها.


إنه ذاك الوداع الصامت...

 حين لا تودع الآخرين، بل تودعك. تودع أنت صورتك التي كنت تلاحقها عبر السنين، تودع كل "يوماً ما" علقتها في سقف الأمل، كل "غداً" خبأته تحت وسادتك، كل محاولة أجّلتها حين ظننت أن العمر صديق وفيّ، فإذا به لصّ ماكر، يسرقك في غفلة من حلم.


في ذلك المكان المهجور، حيث لا جدران تحفظ الدفء، ولا نوافذ تسمح للضوء بالدخول، يجلس الواحد منا كأنه أطلال نفسه. لا يحتاج إلى من يواسيه، فالخذلان ليس مرضاً يُشفى بكلمات، بل صمتٌ يُدفن في القاع. يجلس لينظر في الفراغ، ليحصي كم من مرة حاول أن يكون، لكنه لم يكن. كم من فكرة ولدها ثم وأدها، كم من حلم قرأ عليه السلام قبل أن يُولد.


وهل أصعب من أن ترى الحياة تمضي وأنت على الرصيف، تتأملها من بعيد، بقلب لم يعد يركض، بجفن لم يعد يحلم، بروح تسأل: "هل كنت هنا حقاً؟ أم أنني كنت مجرد احتمال فاشل في كتاب الزمن؟"


لا، لا يبكي الإنسان حينها، فالبكاء ترف لا يملكه من أدرك فوات الأوان. هو فقط يعانق النهاية كما تعانق الأم طفلها الأخير، كما يعانق اليتيم اسماً من الماضي لا أحد يناديه به بعد الآن. يقبل النهاية على جبينها، ويسألها دون صوت: "هل كنت أنا؟ أم أنني لم أكن يوماً؟"


إنه الاعتراف المرّ بأن الحياة ليست للجميع، وأن بعضنا لم يُخلق ليصل، بل ليحاول فقط، حتى ينكسر. البعض منا لا يموت حين يموت، بل حين يدرك أنه عاش خطأً، وأن الوقت لم ينتظره يوماً، كما لم ينتظر كثيرين غيره.


وفي النهاية، حين يسدل الظلام ستاره، لا يبقى إلا أن نتخيل: لو عاد الزمان... هل كنا سنبدأ حقاً؟ أم كنا سنبقى حيث نحن، نحلم... حتى نموت؟


وهكذا، في اللحظة التي لا تعود فيها الدموع مجدية، ولا الرجاء صالحاً، يأتي الوداع الأخير... وداع لا يشبه كل الوداعات السابقة، لأن

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هاظا أني معاه إن هج بهج , وإن حج بحج . الجمل والحصيني قصة طريفة تحاكي الواقع

حج أم هج ؟ حكاية طريفة جدااا

يقول الشاعر : يداوى فساد اللحم بالملح .. فكيف نداوي الملح إن فسد الملح