فلنتذكّر أن أكثر ما يحتاجه الأطفال ليس النجاة من البحر… بل النجاة من قسوة الإنسان.

 




في صباح بارد من نيسان عام 1912، كان اثنان من الصغار يُرفَعون إلى قارب النجاة، يرتجفان صمتًا، مشدوهين من هول ما يحدث حولهم. لم يكن أحد يعرف من هما.

لا أحد كان يتحدث لغتهما — فقط بضع كلمات بالفرنسية تتعثر من بين شفتيهما المرتجفتين، ولا أي بأحد تَقدّم يطالب بهما.


 فلقّبتهما الصحف بـ "يتيمَي التيتانيك".

ميشيل، في الرابعة من عمره، وأدومون، لم يكمل عامه الثاني.

كانا أصغر الناجين… وأكثرهم غموضًا.


لكن خلف وجهيهما البريئين، كانت تختبئ مأساة تمزق القلب.


فقد كان والدهما، ميشيل نافراتيل، قد خطفهما من والدتهما في فرنسا، إثر صراع مرير على الحضانة.

انتحل هوية مزيفة، وركب التيتانيك برفقتهما، يحلم ببداية جديدة في أمريكا.


لكن الحلم اصطدم بالجليد.


وعندما ارتطمت السفينة بالجبل الجليدي في تلك الليلة المصيرية، فهم الأب أن النهاية اقتربت.

بهدوء مؤلم، حمل طفليه، وضعهما في قارب النجاة رقم 15، قبّلهما قبلة أخيرة… واختفى في أعماق الأطلسي.


أما الطفلان، فقد وصلا إلى نيويورك على متن سفينة الإنقاذ "كارباتيا"، تائهَين، منفيَّين من حضن الأمان… لكنّ الحياة ما زالت تنبض فيهما.


أسابيع مرت، ولا أحد يعرف اسميهما…

حتى ظهرت صورتهما في صحيفة فرنسية، فرأتها أمهما، التي لم تكفّ يومًا عن البكاء والدعاء.

ركبت البحر، وقطعت المحيط، حتى احتضنتهما من جديد.


لقد أصبحت قصة الأخوين نافراتيل من أكثر القصص إنسانيةً وألمًا في مأساة التيتانيك.

حكاية اختطاف ونجاة، فراق ولقاء، ضياع ومعجزة…

وواحدة من تلك الذكريات التي لن يسمح التاريخ بأن تُنسى أبدًا...لكن تكرر


وما أشبه البارحة باليوم…


فكما افترق الأخوان الصغيران عن حضن أمهما بسبب أنانية أب وحلم زائف،

يفترق اليوم آلاف الأطفال عن أمهاتهم وآبائهم، لا لأن سفينة غرقت… بل لأن أوطانًا بأكملها تغرق تحت أنقاض الحروب،

تُسرق طفولتهم بين فصول الغدر، والتهجير، والخذلان.


في كل حرب، هنالك "ميشيل" صغير يرتجف من الخوف، و"أدومون" لا يفهم لماذا فُقد كل شيء فجأة.

وإن كانت التيتانيك قد حملت مأساة واحدة إلى قاع البحر،

فإن عالم اليوم يغرق يوميًا في مئات التيتانيكات…

لكن بلا أسماء… وبلا من يعيد الأمهات إليهم.


فلنتذكّر أن أكثر ما يحتاجه الأطفال ليس النجاة من البحر… بل النجاة من قسوة الإنسان.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هاظا أني معاه إن هج بهج , وإن حج بحج . الجمل والحصيني قصة طريفة تحاكي الواقع

حج أم هج ؟ حكاية طريفة جدااا

يقول الشاعر : يداوى فساد اللحم بالملح .. فكيف نداوي الملح إن فسد الملح